هي حتما ثورة شهوة..
هذا ما قاله لنفسه وهو يتململ داخل فراشه كالضمير المتعب.... فعانق اليمين للملاذ...
ثم تململ مرة أخرى فضاجع اليسار للنسيان. فضاعت قبلته! ومن ضاعت قبلته في الصلاة فليسر ولا يطلبن شرقا ولا غربا! هوى في اندفاع عتمة الجوع بأسنانه البارزة على جلدة متخاذلة منتحرة. تغطي ساعده المعروق لوعة كالتعاسة المعيدة نفسها مرات ومرات في مد وجزر يتعانقان..ينصهران..في تنافر شديد... في بطنه البرد.. والبرد محرق كانعدام الخبز...
يحمل الحطب من غابات الفلين اليابسة الممنوعة...
ثم يجمعها فيوقد النار فيها ويجلس ليدفئ يديه وأمعاءه بين أحضان حمرتها القاسية. اصطكت أسنانه ببعضها في توارد خواطر...ثم اشتبكت في صراع يتجاذب الغطاء.. ثم تخطفت قطرات الدم المدفونة في اللثة المتقوقعة.. تابعت الأسنان حفرها... تابعت تضخيم الطرق بالمطارق المتقارعة..القارعة لجمجمة الجوع... الطرق جرح...يموت ويبعث من جديد في كل ضربة عنيدة..قاسية كأداة نفي جازمة! تحول الجوع إلى مخبر لليسار ينشد موقفا صريحا.. تمدد نحو اليمين يحمل بقايا ضمير في تأرجح فكرة..تعثر في وقفة... فتراجع...كعثرة في اللسان! التوى التواءة شديدة كورت كامل جسده اليابس المتصلب كانكسار موقف.. فشكلت الدائرة مكعبا سقيم الزوايا مهزوم الأضلاع مائع الوسط منبعج المحيط. لم تكن التواءته مريحة فمد رجليه الغائرتين على عظم هامد مسلوب الإرادة ثم جذب الغطاء على رأسه المقشعر يقتل أحلاما عابثة... يكتم أنفاس ماضيه الصاخب في بيت يفتقر لمدفئة! سرير بلا وسادة...يموء كالقط الجائع أثلجت قوائمه ليالي الصقيع الطويلة.. الجوع دهليز "هاديس" المعتم.. يفغر فمه.. يدفن المشروع وهو جائع يجوع مع كل اهتزازة سرير... لم يكن في البيت شيء يؤكل... وفي البيت لا يوجد ما يشعل نار المدفئة سوى قطعة ثلج رمادية... سخرية تتراكم في فوضى تصاعدية لم يتوصل لفهمها... حانت منه التفاتة لشباك مرمي على حائط النسيان العتيق فتمنى في لحظة وعي لو يدفن الفهم الأخرس والمفاهيم المتقلبة في تلك الأدراج الثلجية ثم يقفل عليها بمفتاح جهل كي ينحر الإدراك! اتكأ على مرفقيه...تحامل على العبث...راوغ الجوع...وأسند رأسه المتصدع إلى كفيه يحمله بينهما. كويرات متداخلة..متنافرة..ملونة كالبالونات..تخترق زوايا الأبصار عنده..تتسلق جدران إدراكه...تتدحرج على منحدرات ذاكرته المتفجرة الثائرة...المتفرقة في واد منهزم كالخذلان تحت قدمي المرتفعات الجبلية الحمقاء! ما لبثت الحالة أن تحولت لورم ينفخ كل خلاياه الحسية...يضاعف أشكالها المتزاحمة...يمد ذراعية في اختناق...يبحث عن منفذ هواء!! وجدها إلى جانبه..جامدة متجمدة كفكرة مسبقة لا تقبل النقاش. مرر بكفيه المتصلبة الباردة على بقايا جسدها محاولا أن يشرف على عالمها المجفف...تلمس ذراعيها المصلوبتين..ساقيها...صدرها...يتأكد في كل لمسة من غيابها...من هروبها عنه في ليلة كهذه.. ركز على وجهها يراقب خلاصة أنفاسها...تدخل...ثم....تخرج...لا دليل عليها سوى بقايا بخار يتصاعد في حالة خجل مخزية.. قرّب شفتيه من شفتيها عله يقتبس نارا من لهاثها يدفئ به برد مشاعره...فكان ما يأخذه هو عين ما يُسلب منه في كل نفس داخل وخارج.. كانت أنفاسها مترددة متعثرة كأشباح الجحيم الهازئة متهامسة متلامسة تسخر من قبري أنفها الساذج المتجمد كالخبر المألوف في نشرة إخبارية تلوك عظامها... وقف..توقف..استوقف أفكاره حائرا: ماذا يفعل بها؟ فكر أن يقتلع هذا النفس الحائر..المتردد حتى يزيده لخلاياه المرتجفة فيتقي لعنة الليالي الموحشة..المسكونة بأشباح قاتمة.. يريد أن يهرب من التواءات ثعابين الجوع المتموجة داخله تقبل شفتيه وتطبق عليهما في لزوجة قيئية صامتة. أيقظ في لحظة فزع "المرأة-الشبح" تنتحر الى جانبه... ضم مجموعة عظامها الى بقايا صدره في حرارة أمل متسكع على أرصفة شوارع حمص الخاوية..فشققت أجفانها الثقيلة كالجريمة..سألته من قاع بئر جائعة: ·لماذا لا تريحني؟ ·إني جائع...لم أعد أقوى... ·لكنني مثلك أكاد أنتحر جوعا...لم لا تريحني؟ ·ليس لدي حلول... فانتفض لأول مرة في حياته... يدفعه الأمل الرمادي المشوب بحمرة...فأسند رجله اليسرى المترددة إلى يمنى متخاذلة....وحرك بدفء أمل أصابع رجليه المثلجة. كاد يسقط. ارتجف...لكنه تماسك أخيرا...فانطلقت من منافذ كيانه أصوات الرعب والفزع الباردة...فتطايرت كرات من صراخ متصاعدة كالمكعبات...ثم تطاولت لتتكسر فوق بعضها البعض كأطباق زجاجية تلتقى لتتقاطع فتتناثر.. هرول راكضا كالمحرك المنفلت من ضوابطه المناخية نحو جاذبية مجهولة الإتجاه. خطا خطوات شديدة الحرارة ليصل الى فراش ابنته الرضيعة المتكورة على نفسها كالحلم الأبيض تحضنها ابتسامة كالحليب الدافئ. اقترب منها...مسها بأصابعه المتصلبة...تلمسها...جس خدها اللين كالجبن الطري... تفقد أناملها الناعمة...الناعسة كالزبدة الساخنة الشهية...فسال منه اللعاب المكبوت. تذكر العقارب في بطنه....تذكر المعاطف الخشنة السوداء تلفحه بأجنحتها الشائكة في كل ليلة... التفت...تلفت...نظر إلى امرأته النائمة تحت جليد كالهزيمة على فراش موبوء.. ثم تفطن الى رائحة الخبز والجبن والزبدة الصفراء المغرية. رضيعته لم ترد منه البحث عن حل...وهو بدوره لم يرد ايقاظ زوجته..فقد تصبح منافسا له في وجبة اكتشفها بعد عناء جوع سرمدي.. أدار ظهره الى زوجته ثم حمل الرضيعة اللبنية بين كفيه...أدارها مرات...ضمها اليه مرات...ثم عصرها في رعونة مرة واحدة..عنيفة كالشهوة والموت. تقاطر الزبد يطفئ العطش... فتح فمه حتى لا تضيع منه قطرة واحدة....اراد أن تتمتع كل خلايا جسمه المنهك بهذه المادة الدهنية المغذية...كانت تجاويف فمه المفتوح كالموت ترتشف الزبد ارتشافا. الزيت واللحم يتقاطران...يطردان من بطنه غزوة الجوع....فالتهم زبدته الجبنية في جنون مطلق كأن شبحا يطارده في حنايا الليل. أحس بالإعياء...بالتخمة...تنهد ثم واصل إفتراس غنيمته الطرية وهو يصارع الموت والأشباح...أراد أن ينام نوما هادئا بعد حشرجة ليال طويلة محرقة. رفع رأسه...عكست مرآة حائطية صورة وجهه..كانت مسالك حمراء تتمدد من أسفل ذقنه...تنحدر شيئا فشيئا الى صدره... وفتات الجبن اللحمي يلتصق بلحيته ويتساقط على الأرض كلما خطا خطوة باتجاه سريره... خيل اليه أن أصابع تمتد من جوفه لتغرس أظفارها في سواد عينيه فيسيل لعاب قزحي اللون على خديه ويختلط بقطع اللحم الجبنية المتأرجحة فوق شعر شائك.. تنهد تنهيدته المعتادة ليعانق فكرة شتوية أخرى....
ثم نام.........
من مجموعتي القصصية /ديدان قز
مستوحاة من قصة عائلة سورية في حمص رأيت جثثهم متجمدة في ثلوج العام المنصرم..
رجل وامرأة ورضيعة...بانت أعراض الجوع عليهم بشكل أوجعني..
قمت بدفنهم مع جهلي الكامل بأسماءهم..لكني لم أجد من يخبرني قصتهم أو من ينبئني بحقيقة موتهم.
ويقتلني ضميري أني لم أترك على قبورهم اسم ولا وشم إلا ما خط السياف عليهم من رهق وشحوب...
فعدت لبلدي وبي جرح آخر.. وقريبا أعود اليهم ولا أدري ما سا
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف
ثورة الشتاء
العرض الشجري