أنا و القلــــــــــم ...
حملتُ قلمي لأكتب فوجدته يُخبرني أنّه يعلم تماما ما سأُملي عليه .. فسألته : و أنّى لك أن تعلم ذلك ... و لم تكن معي إذ صففتُ الكلام في قلبي نقيّا .؟
فقال : دقّات قلبك في أوصالي سعيدا كان أم شقيّا .
فقلتُ : أراك هذاء أو ربّما كنتَ جنيّا ...؟
فقال : أَصرتُ منك إلى هذا الحدّ قصيًّا ؟ ألم تحملني يداك طوعا و قهرا صُبحا و عشيّة ؟
فقلت له : عذرا ... أيا صاحبي ... فاكتب أرى ما كان على البوح عصيّا ...
فكتب :
... و لا شيء ... لا شيء غير الطّريق الطّويلة الممتدّة تأسر خطواتي ... و أرصفة الانتظار ... و حدائق الشّوق و الشّوك و بوّابات و أسوار ... لا شيء غير البرد يغازلني ... يرفع السّتر عن أنفاسي المُتعبة فتطير سرب غمام يسبقني و أتركه خلفي فيلاحقني ... الثّلج ... غطّى وجه المكان و خطّ الدّنيا كلمات بيضاء ... باردة لاذعة قاسية ... لكن فاتنة ...!!!
السّماء الرّمادية و المساء و أعمدة النّور و مقعد و رصيف ... جلستُ أنفخ في يديّ المتجمّدتين أهفو إلى عطف الأقدار ..أتسلّل نظرة شقاء تلاحق الأحياء وراء النّوافذ المكتحلة بالنّور ... خلف الأبواب الحاجبة للبرد و للغرباء ... و بينما أنا في غيبوبة هوى من نعيق غراب ... لمسة ريح جاءتني أخذت وشاحي منّي ... و حلّقت به إلى أغصان الشّجر و أسلاك الكهرباء و عيون المصابيح ... لتتركني و صفعات الزّمهرير وحدي ... وحدي كما لم أكن أبدا وحدي ... وقفتُ أودّع وشاحي لتزداد وحدتي بيني و بين ذاتي ... و في تلك اللّحظة دفء غريب يمسح على وجنتي ... جاءت تؤنس أشجاني ... و تُحلّي بالملح أحزاني ... من غيرها دمعتي الأخيرة .. لم يستبقِ قلبي دموعا و لا استبقت روحي ... تركتها تنساب في كهف وجهي لتسقط أخيرا لطخة ألم على صفحة دفتري ...
و بعدُ يا قلمي ... ماذا كنتُ سأقول ؟ ماذا كنتُ سأكتب ؟ أم أنّ لطخة الألم ابتلعت كلماتي ... كلّ كلماتي ؟
فقال : سأكتب مازال بعد ...
" ... و عدتُ أبحثُ عن وشاحي ... فرأيته أسير غصنٍ في شجرة ورد ... عند شُبّاك حفّه ملكوت الحُسن كلّه ... بقيتُ أحملقُ فيه و في الفراغ من حوله و في وشاحي الذي أرخى ذراعيه و قد ركدت أنفاس الرّياح ... وقفت و مشيتُ قاصدا لا أدري ... أَشبّاك الورد مقصدي أم وشاحي ...؟
كان الثّلج ضاجّا... صاخبا في هدأة ذاك المساء ... إذ كان في وطآتي يطبع في إثري رسم نعلي ... و يتغلغل رطوبة وبردا إلى قدمين منهكتين من لفافة جريدة و ريح جريدة ... سرتُ و ظلالُ اللّيل بدأت تفتح ستائرها أمامي ... خلا ذلك الشّباك ينبعث إلى أحداقي جنّةً في صفحة جدار صخري ... عتيق ... شدّني إليه و كأنّي داعبت الوردات في صباحاته أو أغارت عليّ روح البدر في مساءاته ... كأنّي شممتُ عبَق أخشابه بعد لثم المطر أو ناجيت منه سلاما وقت السّحَر ... كأنّه سمع أنيني و ضحكاتي و بعته أشجاني و أسراري ...
بلغتها شجرة الورد و مثُلتُ لوحة شوق في أنوار الشّبّاك ... و راحت نظراتي تهرب منّي تطوف بأركان خلف الزّجاج ... مدفأة ... حطب و وِردُ أطيار في أجنحة اللّهب ... و باقاتُ ورد و شموع و لعبة طفل و قنّينة عصير ... و لمسة حياة و غفوة شتاء ..."
..اقتربت من زجاج الشّبّاك أكثر ... فوخزتني أشواك الورد تأوّهت في صمت و غُصت في جمال يفصلني عنه جدار ... و رحتُ بكّمّ سترتي أمسح الزّجاج من نُدف الثلج و ضباب أنفاسي ... رحتُ أدفع بروحي علّها تلجُ ما بعد الزّجاج هناك... هناك عندَ ... عندَ ... !!! لم أكن متلهّفا لدفء النّار و لا نورها و لا عطر الوردات و لا باقاتها ... كنتُ مشدودا إلى لعبة طفل مرمية على السّجاد مهملة عند وسادة من حرير ... إلى حصان أبيض صغير ... مددتُ يدي كالمجنون لآخذها و لكن منعني الجماد الذي يحجزني خلف تلك الحياة ... و لكنّي أشمّه ... أشمّ عطرا مندلقا على تلك اللّعبة ... أشمّه ... أشعر به في بقايا ثيابي و ثنايا خيوط سترتي ... مهلا إنّه يملأ قلبي العاري بين أضلاع البرد ... و روحي الحافية على أفنان الورد ... يا ربّ السّماء ليست رائحة عطر إنّها رائحة مدادي
لم أطق صبرا و أخذت أطرق الزّجاج بقوّة أطرق و أطرق ... حتى تحطّم الإطار و كُسر الزّجاج و استبحت المكان و أسرعت إلى الحصان حملته و إذ به بُحيرة حبر من جانبه الآخر ... مستحيل !!! ... أيّها الشّارع ما اسمك ؟ أيّها البيت ما رقمك ؟ يا درويش الشّتاء ما عنوانك ... 06 شارع 07 مدينة البنفسج و التّوليب ... مدينة البنفسج و التّوليب ...
حينها قلتُ لقلمي و لساني معقود في فمي : أتقصدُ أنّ ذاك بيتي و عنواني ... أجل إنّني أتذكّر ... إنّني أرى ... عطرك يا قلمي في حصاني ... في بيتي و أنا المتسوّل في الشّوارع و الأزقّة ... قلمي يا ساكبا في النّهر ألمي ... يا باكيا على صدري و غائرا في وجعي ... تُذكّرني تستدرجني لتعيدني إلى وعيي برفق ملاك ...
قلمي ... هل تسمعني ...؟ و فتحت عينيّ فوجدتني في عين الشّمس بين أشجار حديقتي ... أناملي مبلّلة كان حبر القلم قد سال عليها و تهادى إلى روحي يسلّم عليها ... نظرت إلى الجسر و تذكّرت العنوان و تذكّرت الحصان ... ذاك كان بيتي حيث عشت طفولتي و الشّباك رفيقي و شجرة الياسمين
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف