ما هي البشارة التي بشر بها عبد الله بن سلام من رسول الله عليه الصلاة والسلام ؟
أقبل عبد الله بن سلام على الإسلام إقبال الظامئ الذي شاقه المورد، وأولع بالقرآن، فكان لسانه لا يفتأ رطباً بآياته البينات، وتعلق بالنبي صلى الله عليه وسلم حتى غدا ألزم له من ظله، ونذر نفسه للعمل للجنة حتى بشَّره بها النبي صلى الله عليه وسلم بشارة ذاعت بين الصحابة, وليس من السهل أن تنتقل من دين إلى دين، لكن الإسلام أقوى من كل شيء، والإيمان أقوى من كل شيء، والإنسان ليس منفعلاً، بل فاعلاً، ليس ابن بيئته، ولا ابن وراثته، ليس ابن أبويه، ولا ابن محيطه، ولا ابن معطياته، ولكنَّه ابن نفسه، وابن قناعته، قال تعالى:
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ﴾
(سورة لقمان الآية: 21)
﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلَا يَهْتَدُونَ﴾
(سورة المائدة الآية: 104)
إليكم قصة هذه البشارة :
وكانت لهذه البشارة قصة رواها قيس بن عبادة وغيره, قال الراوي:
((كنت جالساً في حلقة من حلقات العلم في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، -وبالمناسبة يقولون: محلّق، فما معنى محلق؟ صوابها الحلْقة، ويقال: الحلَقة، قال لي أحدهم: هذا المحلق الجنوبي خط ممتاز، قلت له: إنْ حلقت في الجو فأنت المحلق، قال: المحلق الجنوبي، هذا غلط، لأنّه حلّق يحلِّق يعني هذا أنه طريق جوي، لكن الصواب المتحلق الجنوبي، فهناك دقة في اللغة- .
وكان في الحلقة شيخ تأنس به النفس، ويستروح به القلب، فجعل يحدث الناس حديثاً حلواً مؤثراً، فلما قام قال القوم: من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، قلت من هذا؟ فقالوا: عبد الله بن سلام, فقلت في نفسي: والله لأتبعنه، فتبعته، فانطلق حتى كاد أن يخرج من المدينة، ثم دخل منزله، فاستأذنت عليه فأذن لي، قال: ما حاجتك يا بن أخي؟ قلت: سمعت القوم يقولون عنك لما خرجت من المسجد: من سره أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا، فمضيت في إثرك لأقف على خبرك، ولأعلم كيف عرف الناس أنك من أهل الجنة؟ .
قال: بينما أنا نائم ذات ليلة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاني رجل فقال لي: قم، فقمت، فأخذ بيدي فإذا أنا بطريق عن شمالي، فهممت أن أسلك فيها, فقال لي: دعها فإنها ليس لك، فنظرت فإذا أنا بطريق واضحة عن يميني، فقال لي: اسلك هذه))
-المؤمن مسدد ، والدليل القرآني قال:﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آَمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى﴾
(سورة الكهف الآية: 13)
الهدى الأول: الهدى العام، هدى الحواس، والقدرات التي أودعها الله بالإنسان .
الهدى الثاني: هدى الوحي .
الهدى الثالث: هدى التوفيق .
الهدى الرابع: الدخول إلى الجنة, قال تعالى:﴿سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾
(سورة محمد الآية: 5-6)
قال: اسلكها، فسلكتها، حتى أتيت روضة غناء واسعة الأرجاء، كثيرة الخضرة، رائعة النضرة، وفي وسطها عمود من حديد، أصله في الأرض، ونهايته في السماء، وفي أعلاه حلقة من ذهب، فقال لي: ارقَ عليَّ، قلت: لا أستطيع، فجاءني وصيف فرفعني، فرقيت حتى صرت في أعلى العمود، وأخذت بالحلقة بيدي كلتيهما، وبقيت متعلقًا بها حتى أصبحت، فلما كانت الغداة أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقصصت عليه رؤياي, عَنْ قَيْسِ ابْنِ عُبَادٍ, قَالَ:
((كُنْتُ جَالِسًا فِي مَسْجِدِ الْمَدِينَةِ فَدَخَلَ رَجُلٌ عَلَى وَجْهِهِ أَثَرُ الْخُشُوعِ, فَقَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَجَوَّزَ فِيهِمَا ثُمَّ خَرَجَ وَتَبِعْتُهُ, فَقُلْتُ: إِنَّكَ حِينَ دَخَلْتَ الْمَسْجِدَ, قَالُوا: هَذَا رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ, قَالَ: وَاللَّهِ مَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَقُولَ مَا لَا يَعْلَمُ وَسَأُحَدِّثُكَ لِمَ ذَاكَ, رَأَيْتُ رُؤْيَا عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَصَصْتُهَا عَلَيْهِ, وَرَأَيْتُ كَأَنِّي فِي رَوْضَةٍ ذَكَرَ مِنْ سَعَتِهَا وَخُضْرَتِهَا وَسْطَهَا عَمُودٌ مِنْ حَدِيدٍ أَسْفَلُهُ فِي الْأَرْضِ وَأَعْلَاهُ فِي السَّمَاءِ فِي أَعْلَاهُ عُرْوَةٌ, فَقِيلَ لِي: ارْقَ, قُلْتُ: لَا أَسْتَطِيعُ فَأَتَانِي مِنْصَفٌ فَرَفَعَ ثِيَابِي مِنْ خَلْفِي فَرَقِيتُ حَتَّى كُنْتُ فِي أَعْلَاهَا فَأَخَذْتُ بِالْعُرْوَةِ, فَقِيلَ لَهُ: اسْتَمْسِكْ فَاسْتَيْقَظْتُ وَإِنَّهَا لَفِي يَدِي فَقَصَصْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ: تِلْكَ الرَّوْضَةُ الْإِسْلَامُ, وَذَلِكَ الْعَمُودُ عَمُودُ الْإِسْلَامِ, وَتِلْكَ الْعُرْوَةُ عُرْوَةُ الْوُثْقَى فَأَنْتَ عَلَى الْإِسْلَامِ حَتَّى تَمُوتَ, وَذَاكَ الرَّجُلُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلَامٍ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن قيس ابن عباد في صحيحهما]
إنّ الإنسان إذا اقترب من الله سبحانه وتعالى قرباً شديداً يريه رؤيا مثل فلق الصبح، وأعرف رجلاً دعا ربه دعاءً من كل قلبه، وبإخلاص شديد، وحضور قلب، أن يرزقه زوجة صالحة، فأقسم بالله أنه رأى في المنام أن اذهبْ إلى المكان الفلاني، والشارع الفلاني، والحارة الفلانية، والبناء الفلاني، والطابق الفلاني، والبيت الفلاني، فدل أمه على هذا البيت، فذهبت وخطبت له فتاة صالحةً هي الآن زوجته, عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِي اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, قَالَ:((رُؤْيَا الْمُؤْمِنِ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ))
[متفق عليه, أخرجهما البخاري ومسلم عن أبي هريرة في صحيحهما]
موضوع الإيمان أكبر بكثير من أن يهتز، ترى في بعض المركبات التي لها مقطورة وقاطرة عروة، وهناك معامل متخصصة في صنعها، لأنها تجر ثلاثون طنًا، من سبائك معينة ، ومن خلائط معينة، ولو أنها تفلتت لحدثت كارثة كبيرة جداً، فهي عروة متينة حقًّا، قال تعالى:﴿لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾
(سورة البقرة الآية: 256)
المؤمن ارتباطه بالدين ارتباط مصيري، ولا شيء في الأرض يزعزعه، ولا شيء يثنيه عن خط سيره، والنبي عليه الصلاة والسلام, قال:
((والله يا عمّ, لو وضعوا الشمس في يميني, والقمر في شمالي على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه))
تفسير معاني القصة :
فهذه القصة تروي كيف كان هذا الصحابي الجليل؟ كان يهودياً، وكان حبراً من أحبار اليهود، وكيف أن انتقال الإنسان من دين إلى دين شيء صعب جداً، وسوف يلاقي عِداءً وحقداً، وربما قتالاً، ومع ذلك فإيمانه كان أكبر، والهدى الذي عرفه كان أقوى من كل معطيات البيئة؟ فهذا الذي يزعم أن بيئته صعبة، وهو ناشئ في بيئة معينة، وظروفه صعبة وقاسية، وأهله فيهم شدّة وغلظة، هذا الكلام مرفوض تماماً، والإنسان إذا عرف الله عز وجل حقًّا يهون أمام هذه المعرفة كلُّ شيء، وأمام طاعة الله لا يعبأ بشيء، وإليكم هذا الدليل، قال تعالى:
﴿قَالَ آَمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آَذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَاباً وَأَبْقَى﴾
(سورة طه الآية: 71)
كانوا موعودين، وكانوا بمناصب رفيعة جداً، قال تعالى:
﴿وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ﴾
(سورة الأعراف الآية: 113-114)
وعندما آمنوا, قالوا له:
﴿قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آَمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾
(سورة طه الآية: 72-73)
فهذا الصحابي الجليل حجة على كل من يزعم أن بيئته صعبة، ويقول: معطياتي صعبة ، ونشأت في بيئة معينة، وأنا على دين كذا، فهذا مرفوض .
وأنا أعرف رجلاً ترك طريق الدين وانحرف، لأن مصلحته فيها معصية، فآثر مهنته ومصلحته على دينه، ولو أنه غيرها لرزقه الله من فوقه ومن تحت رجليه، ولكنَّه ما عرف الله عز وجل في حياته فهوى .