وكلها كما ترى مطالبُ توثِّق العُرى، وتزكِّي المجتمع، وتبصِّر بالأعداء، وتحذِّر من أن نرجع القهقرى، مشرعة للمسلمين في خاصة أنفسهم، وفي معاملة من يخالطون، مرشدة لطرق المحاجة والمناقشة، والتلطُّف في ردِّ أباطيل الخصوم، ودَحْض مزاعمهم، مُبَوِّئة المسلمين مقاعد رشدٍ، ومراكز قوة، ويبلغ التلطُّف مداه حين ينادي خصوم الدعوة بصفات مُثْلى تَعتَبِر ذواتهم، وتُشبِع غرورهم، وتُهدهد من جِبِلَّة الطين الثائرة في أعماقهم: يا أهلَ الكتاب، يا أهلَ الكتاب، يا أهلَ الكتاب، نداءات تَنمُّ عن احترام الخصوم، والتلطُّف البالغ معهم.
عود إلى الأزلام:
والسورة قبل أن ترفعَ أذان الكمال، تعرضتْ لجملة من المحرَّمات، ثم عطفتْ عليها الاستقسام بالأزلام؛ بجامع الوهم الفاسد الذي ينتظم كلَّ هذه الانتهاكات.
والاستقسام لا شك يعني الصورة التي كانتْ تُمارَس في الجاهلية؛ ابتغاء معرفة ما يخبِّئ المستقبل، بواسطة سهام كانوا يجيلونها في الأقداح، كلما أُبْهِمَ أمامهم موقفٌ أو استغلق أمرٌ، فإذا خرَج نذير الشؤم أمسكوا، وإن خرَج الآخر، مضَوا مستبشرين.
والإسلام إذ يحرِّم هذا، يربي المسلم على أن يبني أمرَه على تخطيط بصير، يعتمد على حقائق، لا على وهمٍ باطل، ورجْم بالغيب، أو طرْقٍ بالحصى، أو ضرْب للرمل، أو استخارة بآيات القرآن، أو مناجاة للنجوم، واستيحاء للأبراج.
ومن الاستقسام طلب ما قسمَ من رِزقٍ بواسطة الأزلام، كما يفعل نُقباء الهياكل، وسَدَنة الأقداح، الذين يتخذون إجالة الأقداح، وإشاعة الأوهام حِرفةً ومصدرَ رزقٍ.
ومن هذا ما يفعله سَدَنة الأضرحة، وعَبَدَة صناديق النذور، فإنهم يروِّجون الخرافات، ويبيعون البركات، ويستقسمون للبُلْه بما لأهل القبور من كَرَامات، ومنه الارتزاق بالميسِر.
ومثل هذا أن يتلاعب العلماء بما أُخِذ عليهم من مواثيق، فينقضوا أو يعرضوا، أو يكتموا أو يطوِّعوا النصوص، ويلووا أعناق الآيات؛ إرضاءً للسادة، أو تزلُّفًا للقادة، أو طلبًا لدنيا، إلى آخر أساليب هؤلاء الذين يلبسون الحقَّ بالباطل، ويكتمون الحق وهم يعلمون أن الله - سبحانه - أخَذ ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيينه للناس وعدم كتمانه، وأنه تهدَّد وتوعَّد كلَّ مَن يؤثِر العَرَض الحاضر على الأجل الصادق؛ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ ﴾ [البقرة: 174- 175].
إن كل هذا استقسام، ولَعِب بالأزلام، وإهدارٌ للعِفَّة، وأكْلٌ بالثدي، والإسلام يربَأ بأهله أن تقودَهم شهوة البطن إلى التسقُّط والرمرمة، أو أن تقودهم شهوة الكسب إلى الإسفاف والإجحاف والمأثمة، أو أن تغلبَهم كَبوة الفكر، فيسقطوا أسْرى الدجَل والشعارات، ويتداولوا في أسواق النخاسة، ويُعللوا بما تعلل به الأطفال، ويُشغلوا بما تُشْغَل به الدواجن والأنعام.
وضحايا الأزلام والأوهام كانوا يرون ذلك السَّفه معرفة، ويتخذونه دينًا، والمنتفعون من ورائهم يزيِّفون لهم هذا الرأي الساقط؛ ليدينوا إلى الأبد دينَ الزيف، وليظلوا - ما عاشوا - نهبَ الأنياب والمخالب والأضراس، فالصلة - كما نرى - وثيقة بين هؤلاء وبين أحبار السوء المرابطين في ساحات الاستبداد، يشترون بآيات الله ثمنًا قليلاً، ويكتمون الحقَّ، أو يلبسونه بالباطل، ويضفون الشرعية على أباطيل المستبدين، وينقضون بذلك غزْلَ الإسلام من بعد قوة أنكاثًا، ويحلون عُرى الإسلام عروةً عروة.
وَهَلْ ضَيَّعَ الدِّينَ إِلاَّ المُلُوكُ
وَأَحْبَارُ سُوءٍ وَرُهْبَانُهَا
لبنة الكمال وكمال اللبنة:
بمثل هذه اللمسات الرقيقة يصقل القرآن كِيان المسلمين؛ حتى يظل مَجلوًّا مُرهفًا، يعكس من أضوائه على الناس، وتنعكس على صفحته ما يرسله العالم من سِني الحضارة، وإشارات العلم، وما يبثه من عِبَر وحِكم، ونُذر وبُشْريات.
وبين هدايات السماء، وآيات الله التي تمض [4] خلال الكون متكاملة متفاعلة، بينها يترعرع المسلم، وتنمو الأمة، وتقوم الدولة، وتحيا الضمائر، وتقوى العلائق، وتعظم الروابط التي تصِل الفرد بربِّه، وبالناس على هدًى وبصيرة.
وتحقُّق هذا المستوى الرفيع في ظلِّ التفاعل بين الدين والدنيا، هو الكمال الذي ينبغي أن يدفع إلى مزيد من الكمال، إلى مزيد من التمسك بقِيَم الدين، إلى مزيد من التعامل مع سُنن الله في الكون، إلى مزيد من صلابة العود، ورحابة الأُفق، وسماحة الْخُلق، وجميل المعرفة، وعَظَمة الإعداد، وكلها معانٍ تغذي الكِيان، وتوطِّئ للكمال.
والإسلام بما استودع من قوًى وكمالات لَبِنةُ الكمال في صَرْح الأديان، وهو الحلقة الخاتمة في سلسلة الدعوات الطويلة التي استهدفتْ تعبيد العباد لربِّ العباد وحْدَه لا شريك له، ولعلَّ ذلك مفاد حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي، كمثل رجل بنى بيتًا فأحسنه وأجمله، إلاَّ موضع لَبِنة من زاوية، فجعل الناس يطوفون به ويعجبون له، ويقولون: هلاَّ وضعت هذه اللبنة؟ قال: فأنا اللبنة، وأنا خاتم النبيين)).
وإذا كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يمثِّل بدينه القويم الجامع لبنة الكمال في صرْح الأديان، فإن فريضة الحج تمثِّل كمال تلك اللبنة، وذلك:
1- باعتبارها خامسَ الأركان، وغلاق الدائرة، والدائرة إذا استحكمتْ حلقاتها، ولدت النور، وأورثتِ الحركة، وبشَّرت بالخير والكمال.
2- وباعتبارها في قمة الأعمال التي تزكِّي النفس، وتطهِّر اليد والأرْدَان، وذلك مصداقًا لِمَا رُوي في الصحاح عن أبي هريرة، قال: سُئل رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: أي العمل أفضل؟ قال: ((الإيمان بالله ورسوله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((الجهاد في سبيل الله))، قيل: ثم ماذا؟ قال: ((حج مبرور))؛ متفق عليه.
ولِمَا رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص، قال: لَمَّا جعَل الله الإسلامَ في قلبي، أتيتُ النبي - صلى الله عليه وسلم - فقلتُ: ابْسط يمينك لأبايعك، فبَسَط يمينه، فقبضتُ يدي، فقال: ((ما لك يا عمرو؟))، قلتُ: أردتُ أن أشترطَ، فقال: ((تشترط ماذا؟))، قلتُ: أن يغفرَ لي، قال: ((أمَا علمتَ يا عمرو أنَّ الإسلام يهدِم ما كان قبله، وأنَّ الهجرة تهدِم ما كان قبلها، وأنَّ الحج يهدِم ما كان قبله؟)).
والحج بحكم هذا المقام، وبمقتضى ما يلازمه من كَبَدٍ، فريضةُ الأقوياء الكُمَّل، الذين تَفيض أكنافهم حركة وقُدرة، واقتحامًا للعقبة، وانضباطًا وصبرًا، وحُسْن سياسة في معاملة الناس، ولا شك أن المؤمن الذي يخالط الناس ويَصبِر على أذاهم، خيرٌ من الذي لا يخالطهم ولا يصبر على أذاهم؛ وَفْق ما رواه الترمذي وأحمد - رضي الله عنهما - عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم.
إيحاء كلمة (الناس):
ولعلَّ القرآن الكريم في استعماله كلمة المؤمنين أو صفة الإيمان، حين فرض الصلاة[5]، والزكاة[6]، والصوم[7]، وكلمةَ (الناس) حين أوْجَب فريضة الحج؛ ﴿ وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ ﴾ [آل عمران: 97] - أراد أن يوحي بتميُّز الحج؛ ذلك لأن كلمة (ناس) من مادة "ن و س"، التي توحي بالكثرة، وتنبئ عن الحركة والحيويَّة، والحج بما يلابسه من حركة وظَعْنٍ، وإقامة وكَبَدٍ، ولِمَا يستتبع من بيْع وشراء، وإجارة وإسكان، ولتظاهر بلاد كثيرة وأطراف متعددة على تغطية متطلبات الموسم، وتوفير إمكانات الحج، لكلِّ ذلك ولغير ذلك كانتْ كلمة الناس مناسبة للمقام.
عرض الأقوياء، وعرض الأذلة:
والحق أنَّ الإسلام إذ يستنفر للحج إنما ينثر كِنانته، ويستعرض جيشه، ويختبر قوَّته، ويدِّرب جُنده على الزحف والكبد، وتحمُّل التقلُّبات، والصبر على اللأواء[8]، والله - سبحانه وتعالى - يبارك فيالق الحج وكتائب الإسلام حين يفدون حُنفاء أنقياء، ويحتشدون في الساحات أسوياء أقوياء، ويدينهم ويُعرِض عنهم حين يَرِدون أذلَّة ضعافًا، متدابرين مُنتهَبِين، متورِّمي الأقْفية من طول ما صُفِعوا، متقرِّحي الأدبار من طول ما رُكِلوا ودِيسوا.
إنَّ الله لا يرضى لأصفيائه إلاَّ أن يكونوا في بروج الرفعة والهيمنة والسمو؛ ﴿ وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 139].
إن الحج بمعانيه التي تفيض حركة وقُدرة ورَحابة، كان مُتنزَّل تلك الآيات الكريمة التي تزخَر بالمجد، وتَنبض بالحياة في سورة المائدة سامته رابئة[9] عن المزالق، والمساقط والشهوات.
ولقد روعتْ مُعطيات آية الكمال طوائف يهود؛ جاء رجل منهم - فيما يرويه مسلم وغيره - إلى عمر بن الخطاب، فقال: "يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرؤونها، لو علينا أنزلتْ معشرَ يهود، لاتخذنا ذلك اليوم عيدًا، قال: وأيُّ آية؟ قال: اليوم أكملتُ، فقال عمر: إنني لأعلم اليوم الذي أُنزلتْ فيه، والمكان الذي أنزلتْ فيه، نزلتْ على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعرفة، في يوم جمعة"، وعرفة عيد، والجمعة عيد، فالله - سبحانه - جمَع بهذه الآية على المسلمين ثلاثة أعياد: عيد يوم عرفة، وعيد الجمعة، وعيد الكمال، ولقد راع عمرَ - رضي الله عنه - تفاعُلُ هذه الأعياد، وتدبَّرَ مغْزَى الكمال الذي أُعْلِن فبكى، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: ((ما يُبكيك؟)) قال: أبكاني أنَّا كنَّا في زيادة من أمرِ ديننا، فأمَّا إذ كَمل، فإنه لَم يكمُلْ شيء إلاَّ نقَص، فقال: ((صدقتَ))؛ رواه ابن جرير.
ومثل عمر - رضي الله عنه - حين يُحلِّل هذا التحليل الدقيق، يَفطن إلى ما وراء ذلك من أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أدَّى الرسالة، وبلَّغ الغاية، وليس بعد ذلك إلا الرحيل، فقد انتقَل - صلى الله عليه وسلم - إلى الرفيق الأعلى بعد يوم عرفة ذلك بواحدٍ وثمانين يومًا؛ رواه ابن جرير.
وتدافعت القوى، ودالت الأيام، واهتزَّتْ معايير المسلمين؛ ليبدأ الإسلام رحلة القهقرى، ليعودَ كما بدأ؛ فطوبَى للغُرباء.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف