الحمد لله الذي جعل في السماء بروجًا، وجعل فيها سراجًا وقمرًا منيرًا، وهو الذي جعل الليل والنهار خلفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكورًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد، الذي أرسله ربه شاهدًا ومبشرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا؛ أما بعد:
فإن الجنود المخلصين الذين يقفون على حدود بلادهم ويتحملون الشدائد الكثيرة؛ دفاعًا عن دينهم وبلادهم، وحماية لها من الأعداء؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى وحده - لهم منزلة عظيمة عند الله تعالى؛ فأقول وبالله سبحانه وتعالى التوفيق:
سوف نذكر بعض الأحاديث النبوية الشريفة المباركة التي توضح منزلة الجنود المدافعين عن دينهم وأوطانهم؛ ابتغاء مرضاة الله تعالى، والحصول على الثواب العظيم يوم القيامة:
(1) روى مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169]؛ قال: ((أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا))؛ [مسلم، حديث: 1887].
الشرح:
قوله: (أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل): فيه بيان أن الجنة مخلوقة موجودة، وهو مذهب أهل السنة، وهي التي أُهبِط منها آدم، وهي التي يُنعَّم فيها المؤمنون في الآخرة؛ هذا إجماع أهل السنة؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 13، ص: 31].
قوله: (هل تشتهون شيئًا؟): هذا مبالغة في إكرامهم وتنعيمهم؛ إذ قد أعطاهم الله ما لا يخطر على قلب بشر، ثم رغَّبهم في سؤال الزيادة، فلم يجدوا مزيدًا على ما أعطاهم، فسألوه حين رأوه أنه لا بد من سؤال أن يرجع أرواحهم إلى أجسادهم ليجاهدوا ويبذلوا أنفسهم في سبيل الله تعالى، ويستلذُّوا بالقتل في سبيل الله؛ [مسلم بشرح النووي، ج: 13، ص: 33].
(2) روى أحمد عن ابن عمر، عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما يحكي عن ربه تبارك وتعالى قال: ((أيما عبدٍ من عبادي خرج مجاهدًا في سبيلي؛ ابتغاء مرضاتي، ضمنت له أن أرجعه بما أصاب من أجر وغنيمة، وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه، وأُدخله الجنة))؛ [حديث صحيح، مسند أحمد، ج: 10، ص: 186، حديث: 5977].
الشرح:
قوله: (خرج مجاهدًا في سبيلي): معناه: لا يُخرجه إلا محض الإيمان والإخلاص لله تعالى.
قوله: (أغفر له وأرحمه، وأُدخله الجنة): أي: لجوده بنفسه وبذله إياها في رضا الله تعالى؛ [فيض القدير، عبدالرؤوف المناوي، ج: 4، ص: 486].
(3) روى الترمذي عن جابر بن عبدالله، قال: ((لقيَني رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لي: يا جابر، ما لي أراك منكسرًا؟ قلت: يا رسول الله، استُشهد أبي، وترك عيالًا ودَينًا، قال: أفلا أبشرك بما لقِيَ اللهُ به أباك؟ قال: بلى يا رسول الله، قال: ما كلَّم الله أحدًا قط إلا من وراء حجاب، وأحيا أباك فكلمه كِفاحًا، فقال: يا عبدي، تمنَّ عليَّ أُعْطِك، قال: يا رب، تحييني فأُقتل فيك ثانيةً، قال الرب عز وجل: إنه قد سبق مني أنهم إليها لا يرجعون، قال: وأُنزلت هذه الآية: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا ﴾ [آل عمران: 169]))؛ [حديث حسن، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2408].
قوله: (استشهد أبي وترك عيالًا ودينًا): أي: ترك كثيرًا من الأولاد ودينًا ثقيلًا، فاجتمع أسباب الحزن.
قوله: (ما كلم الله أحدًا قط): أي: قبل أبيك، ففيه إشارة إلى أنه بخصوصه أفضل من سائر الشهداء من الأمم الماضية؛ حيث ما كلم الله أحدًا منهم إلا من وراء حجاب، وفي هذا إشارة إلى أن قوله تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ﴾ [الشورى: 51] مقيد بالدنيا؛ لقوله: (وأحيا أباك فكلمه كفاحًا)؛ أي: كلم أباك مواجهةً من غير واسطة بينه وبين الله تعالى.
قوله: (تمنَّ عليَّ): أي: أعطيك ما تريد مع المزيد.
قوله: (يا رب تحييني فأقتل فيك ثانيةً): خبر بمعنى الدعاء؛ أي: أحيني حتى أُستشهد في سبيلك مرةً أخرى؛ ليكون وسيلةً إلى زيادة مرضاتك.
قوله: (سبق مني أنهم): أي: الأموات (لا يرجعون): أي: إلى الدنيا؛ [مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي، ج: 9 ص: 4024، 4023].
(4) روى أبو داود عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما أُصيب إخوانكم بأُحُدٍ، جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر، ترِد أنهار الجنة، تأكل من ثمارها، وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش، فلما وجدوا طِيبَ مأكلهم، ومشربهم، ومَقِيلهم، قالوا: من يبلغ إخواننا عنا أنَّا أحياء في الجنة نُرزق؛ لئلا يزهدوا في الجهاد، ولا ينكلوا عند الحرب؟ فقال الله سبحانه: أنا أبلغهم عنكم، قال: فأنزل الله: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ﴾ [آل عمران: 169] إلى آخر الآية))؛ [حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني، حديث: 2199].
الشرح:
قوله: (لما أصيب إخوانكم): أي: من الشهداء يوم معركة أحد.
قوله: (جعل الله أرواحهم في جوف طير خضر): أي: في أجواف طيور خضر خالية من الأرواح على أشباه مصورة بصور الطيور، حتى تتلذذ الأرواح.
قوله: (ترد أنهار الجنة): أي: من الماء واللبن والعسل والشراب الطهور.
قوله: (وتأوي إلى قناديل من ذهب معلقة في ظل العرش): أي: بمنزلة أوكار الطيور.
قوله: (ولا ينكلوا): أي: لا يجبنوا عند الحرب؛ [مرقاة المفاتيح، شرح مشكاة المصابيح، علي الهروي، ج: 6، ص: 2493].
(5) روى أحمد عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُؤتَى بالرجل من أهل الجنة، فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب، خير منزل، فيقول: سَلْ وتَمَنَّ، فيقول: ما أسأل وأتمنى إلا أن تردَّني إلى الدنيا، فأُقتل في سبيلك عشر مرات؛ لِما يرى من فضل الشهادة، ويؤتى بالرجل من أهل النار، فيقول له: يا ابن آدم، كيف وجدت منزلك؟ فيقول: أي رب، شر منزل، فيقول له: أتفتدي منه بطِلاع الأرض ذهبًا؟ فيقول: أي رب، نعم، فيقول: كذبت، قد سألتك أقل من ذلك وأيسر، فلم تفعل فيُرد إلى النار))؛ [حديث صحيح، مسند أحمد، ج: 20، ص: 402، حديث: 13162].
معاني الكلمات:
بطلاع: بملء.
أيسر: أسهل.
الشرح:
قوله: (تردني إلى الدنيا، فأقتل في سبيلك عشر مرات): ليس هناك أحد يتمنى ويرغب أن يفارق الجنة بعد دخولها، ويعود إلى الدنيا مرة أخرى، ولو أُعطي الأرض كلها بما فيها من كنوز ونفائس، وما عليها من قصور عالية وحدائق غنَّاء، ثم إلا الشهيد، فإنه يحب العودة إلى الدنيا عشر مرات؛ لكي يجاهد كل مرة في سبيل الله ويستشهد فيفوز بالشهادة عشر مرات بدل مرة واحدة؛ وذلك لِما يرى من الكرامة التي يلاقيها الشهداء؛ [منار القاري شرح مختصر صحيح البخاري، حمزة محمد قاسم، ج: 4، ص: 91].
(6) روى البخاري عن سهل بن سعد الساعدي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((رباطُ يومٍ في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها، وموضعُ سَوط أحدكم من الجنة خير من الدنيا وما عليها، والروحة يروحها العبد في سبيل الله أو الغدوة خير من الدنيا وما عليها))؛ [البخاري، حديث: 2892].
(7) روى الشيخان عن أنس بن مالك رضي الله، عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((لَغَدْوَةٌ في سبيل الله أو رَوْحَة خير من الدنيا وما فيها))؛ [البخاري، حديث: 2792، مسلم، حديث: 2796].
(8) روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما أحدٌ يدخل الجنة يحب أن يرجع إلى الدنيا وله ما على الأرض من شيء، إلا الشهيد، يتمنى أن يرجع إلى الدنيا فيُقتل عشر مرات؛ لِما يرى من الكرامة))؛ [البخاري، حديث: 2817].
(9) روى البخاري عن عباية بن رفاعة بن رافع بن خديج قال: أخبرني أبو عبس هو عبدالرحمن بن جبر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((ما اغبرَّت قدما عبدٍ في سبيل الله فتمسه النار))؛ [البخاري، حديث: 2811].
(10) روى الشيخان عن أبي هريرة: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُئل: أي العمل أفضل؟ فقال: إيمان بالله ورسوله، قيل: ثم ماذا؟ قال: الجهاد في سبيل الله، قيل: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور))؛ [البخاري، حديث: 26، مسلم، حديث: 83].
(11) روى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله، كل درجتين ما بينهما كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم الله فسَلُوه الفِردوس؛ فإنه أوسط الجنة، وأعلى الجنة، وفوقه عرش الرحمن، ومنه تفجَّر أنهار الجنة))؛ [البخاري، حديث: 2790].
(12) روى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، لا يكلم أحد في سبيل الله، والله أعلم بمن يكلم في سبيله، إلا جاء يوم القيامة واللون لونُ الدم، والريح ريح المسك))؛ [البخاري، حديث: 2803، مسلم، حديث: 1876].
(13) روى مسلم عن مسروق قال: سألنا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية: ﴿ وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ ﴾ [آل عمران: 169]؛ قال: ((أمَا إنَّا قد سألنا عن ذلك، فقال: أرواحهم في جوف طير خضر، لها قناديل معلقة بالعرش، تسرح من الجنة حيث شاءت، ثم تأوي إلى تلك القناديل، فاطلع إليهم ربهم اطِّلاعةً، فقال: هل تشتهون شيئًا؟ قالوا: أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات، فلما رأوا أنهم لن يُتركوا من أن يسألوا، قالوا: يا رب، نريد أن ترد أرواحنا في أجسادنا حتى نُقتل في سبيلك مرةً أخرى، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا))؛ [مسلم، حديث: 1887].
(14) روى مسلم عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدَّين))؛ [مسلم، حديث: 1886].
(15) روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((والذي نفسي بيده، وددت أني أقاتل في سبيل الله، فأُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل، ثم أُحيا، ثم أُقتل))؛ [البخاري، حديث: 2797].
(16) روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: ((جاء رجلٌ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: دُلَّني على عمل يعدل الجهاد؟ قال: لا أجده، قال: هل تستطيع إذا خرج المجاهد أن تدخل مسجدك فتقوم ولا تفتر، وتصوم ولا تفطر؟ قال: ومن يستطيع ذلك؟))؛ [البخاري، حديث: 2785].
(17) روى الترمذي عن معاذ بن جبل قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((ألا أخبرك برأس الأمر كله وعموده، وذِروة سَنامه، قلت: بلى يا رسول الله، قال: رأس الأمر الإسلام، وعموده الصلاة، وذروة سنامه الجهاد))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 2110].
(18) روى أبو داود عن فضالة بن عبيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كلُّ الميت يُختم على عمله إلا المرابط، فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة، ويُؤمَن من فتَّان القبر))؛ [حديث صحيح، صحيح أبي داود للألباني، حديث: 2182].
(19) روى الترمذي عن المقدام بن معديكرب، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((للشهيد عند الله ستُّ خِصال: يُغفر له في أول دفعة، ويرى مقعده من الجنة، ويُجار من عذاب القبر، ويأمن من الفزع الأكبر، ويُوضَع على رأسه تاجُ الوقار، الياقوتة منها خير من الدنيا وما فيها، ويُزَوَّج اثنتين وسبعين زوجةً من الحور العين، ويُشفَّع في سبعين من أقاربه))؛ [حديث صحيح، صحيح الترمذي للألباني، حديث: 1358].
(20) روى النسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الشهيد لا يجد مسَّ القتل إلا كما يجد أحدكم القرصة يقرصها))؛ [حديث حسن صحيح، صحيح النسائي للألباني، ج: 2، ص: 393].
فائدة مهمة:
معنى الرباط: الرباط: هو تأهب للجهاد، والإقامة في مكان يتوقع هجوم العدو منه.
والرباط: الإقامة بالثغر، مقويًا للمسلمين على الكفار.
والثغر: كل مكان يُخيف أهله العدو.
وأصل الرباط من رباط الخيل؛ لأن هؤلاء يربطون خيولهم، وهؤلاء يربطون خيولهم، كل يعد لصاحبه؛ [المغني لابن قدامة، ج: 13، ص: 18].
ختامًا: أسأل الله تعالى بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أن يجعل هذا العمل خالصًا لوجهه الكريم، وأن يجعله ذخرًا لي عنده يوم القيامة، ﴿ يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ ﴾ [الشعراء: 88، 89]، كما أسأله سبحانه أن ينفع به طلاب العلم الكرام، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله، وأصحابه، والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف