والتجارة في الأصل: اسم يقع على عقود المعاوضات التي تطلب بها الأرباح؛ كالبيع والشراء والإجارة ونحو ذلك.
أي: فما ربحت تجارتهم حين اشترَوُا الضلالة بالهدى، بل خَسِروا أعظمَ الخُسران، كما قال تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ﴾ [الزمر: 15].
﴿ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾: الجملة معطوفة على ما قبلها، أي: وما كانوا على هدى في منهجهم ومسلكهم؛ حيث اختاروا الضلالة واعتاضوا بها عن الهدى، فخسروا الصفقتين فلا ربح ولا هدى.
الفوائد والأحكام:
1) دعوى فريق من الناس الإيمانَ بالله واليوم الآخر قولًا بألسنتهم فقط، وهم المنافقون، ونفيُ الله عز وجل وإبطاله لقولهم، وتأكيد عدم إيمانهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ ﴾ [البقرة: 8].
2) لابد في الإيمان من تطابق القلب وتواطُئه مع اللسان، فالإيمان بمجرد اللسان ليس بشيء.
3) بلاغة القرآن الكريم وحسنُ نظمه وترتيبه، فابتدأ في هذه السورة بذكر المؤمنين الخُلَّص؛ عناية بهم وتعظيمًا لشأنهم، ثم ثنَّى بذِكر مَن عداهم، وهم الكفار، وقسَّمهم إلى قسمين: كفار خلَّص كفرُهم صريح، ومنافقون جمَعوا بين الكفر والكذب، وأخَّر ذكر هذا القسم، وهم المنافقون؛ لأنهم أشدُّ كفرًا، وأعظم عذابًا، فانتقل من الحسن إلى السيئ، ثم إلى الأسوأ.
4) في إظهار بعض الناس الإيمانَ مع كفرهم في الباطن دلالةٌ على ظهور الإسلام وقوة شوكته وقت نزول الآيات؛ لأنهم إنما سلكوا هذا المسلك لِتَسلَمَ لهم دماؤهم وأموالهم؛ ولهذا لم يَظهَرِ النفاق إلا في المدينة بعد أن قويتْ شوكةُ الإسلام.
5) أن الإيمان بالله؛ بربوبيته وألوهيته وأسمائه وصفاته، هو أصل الإيمان وأعظم أركانه؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ ﴾ [البقرة: 8].
6) أن الإيمان باليوم الآخر من أعظم أركان الإيمان؛ لقرنه بالإيمان بالله تعالى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [البقرة: 8]، وهذا يَرِدُ كثيرًا في القرآن الكريم؛ لأن الإيمان باليوم الآخر من أعظم ما يحفز ويحمل على العمل.
7) أن يوم القيامة هو آخر الأيام؛ لقوله تعالى: ﴿ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾؛ ولهذا يقال: إن آخر ليلة من الدنيا صبيحتها يوم القيامة.
8) مخادعة المنافقين اللهَ والذين آمنوا، وهم في الحقيقة إنما يَخدَعون أنفسهم؛ لأن الله عز وجل لا يُخدَع، ولا يَخفى عليه شيء، ولأن خداعهم للمؤمنين لا يضرُّهم، وإنما يعود ضرره على المنافقين أنفسِهم؛ لقوله تعالى: ﴿ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ ﴾ [البقرة: 9].
9) أن سبب ضلال المنافقين مرضُ قلوبهم؛ لقوله تعالى: ﴿ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10].
10) إثبات زيادة الأعمال صالحة أو غير صالحة، وزيادة الإيمان والكفر؛ لقوله تعالى: ﴿ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ﴾ [البقرة: 10].
11) الوعيد الشديد للمنافقين بالعذاب الأليم بسبب كذبهم ونفاقهم؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾ [البقرة: 10]، وفي هذا ذم الكذب والنفاق.
12) ربط المسبَّبات من العقوبات وغيرها بأسبابها، وأن الله عز وجل لا يعذِّب أحدًا إلا بذنب؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ ﴾.
13) زعم المنافقين الإصلاح، والرد عليهم، وبيان أنهم هم المفسدون في الأرض حقيقة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ * أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ ﴾ [البقرة: 11، 12].
14) تحريم الإفساد في الأرض، وأن النفاق من أعظم الإفساد في الأرض؛ لقوله تعالى: ﴿ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ ﴾ [البقرة: 11].
15) ينبغي الحذر من المنافقين، وصفاتهم الذميمة، فهم يدَّعون الإيمان وهم كاذبون، ويزعمون الإصلاح وهم المفسدون.
16) موت شعور المنافقين، وضعف أحاسيسهم، وانطماس بصائرهم، وعمى قلوبهم، وهذا من أعظم البلوى؛ لقوله تعالى: ﴿ وَمَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 9]، وقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ ﴾ [البقرة: 12].
17) وجوب الإيمان بكل ما أوجَب الله الإيمان به؛ لقوله تعالى: ﴿ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ ﴾ [البقرة: 13].
18) شدة طغيان المنافقين وإعجابهم بأنفسهم؛ لإنكارهم على من يدعوهم إلى الإيمان، ورميهم المؤمنين بالسَّفَهِ؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 13].
19) جرأة المنافقين ونحوهم من أعداء الله ورسله على وصف الرسل وأتباعهم بأبشع الأوصاف؛ تنفيرًا منهم؛ لقوله تعالى: ﴿ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ ﴾، وكما قال تعالى: ﴿ كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ ﴾ [الذاريات: 52].
20) دفاع الله عز وجل عن المؤمنين وردُّه رميَ المنافقين لهم بالسفه، وبيان وتأكيد أن المنافقين هم السفهاء؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ ﴾ [البقرة: 13].
21) جهل المنافقين وعدم علمهم بما ينفعهم حقيقة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13]، فجمع الله لهم بين السفه وعدم الفهم؛ لأن نظرتهم للحياة نظرة مادية بهيمية، يريد الواحد منهم العيش ولو عاش عيشة الذلِّ والخسف، عيشة الحمار.
22) أن كل من لم يؤمِنْ فهو سفيه جاهل؛ لقوله تعالى: ﴿ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 13]، وكما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ ﴾ [البقرة: 130].
24) ذم المنافقين؛ لأن الله سمَّى كبراءهم ورؤساءهم شياطين، فقال: ﴿ وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ ﴾ [البقرة: 14].
25) استهزاء المنافقين بالمؤمنين بقولهم إذا لقوهم: "آمَنَّا"؛ ومن ثم قولهم إذا خلوا إلى شياطينهم: ﴿ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ ﴾ [البقرة: 14].
26) أن الله يستهزئ بمن يستهزئ به أو برسله وأوليائه أو بشرعه على سبيل المجازاة لهم، وهذا حقٌّ؛ لقوله تعالى: ﴿ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ ﴾ [البقرة: 15]، فزيَّن لهم ما هم عليه من النفاق بعصمة دمائهم وأموالهم، حتى ظنوا أنهم مع المؤمنين، مع ما أعدَّ لهم في الآخرة من العذاب الأليم.
27) أن الجزاء من جنس العمل، فالله عز وجل إنما يستهزئ بالمستهزئين، وهذا عدل وحق.
28) إمداد المنافقين والإملاء لهم وتركُهم على ما هم عليه من العتو والعناد؛ ليزدادوا طغيانًا وإثمًا؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾ [البقرة: 15].
29) أن الطغيان ومجاوزة الحد سببٌ للضلال والحيرة، وعمى البصيرة؛ لقوله تعالى: ﴿ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾.
30) أن الله عز وجل يملي للظالم؛ حتى يستمر ويزداد في طغيانه، حتى إذا أخذه لم يُفلِتْه.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف