الحمد لله الذي لم يتخذ ولدًا، ولم يكن له شريك في الملك، ولم يكن له ولي من الذل، والحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، مصدقًا لِما بين يديه وأنزل التوراة والإنجيل، كتاب أحكمت آياته ببديع المعاني وعجيب النظم نظمًا رصينًا محكمًا لا يقع فيه نقصٌ: ﴿ الَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ ﴾ [هود:1]، إن كل كلمة جاءت في القرآن الكريم لها دلائل ومعنى ومراد واضح، وكلمة أهل الكتاب هي كلمة من كلام الله التي وردت إحدى وثلاثين مرة، وأغلب ورودها كان في سورة آل عمران اثنى عشرة مرة، وتختلف عن عبارة "أوتوا الكتاب" التي جاءت ست عشرة مرة في القرآن الكريم، وأغلب ورودها في سورة آل عمران، وعن عبارة "أتيناهم الكتاب" التي جاءت ثمان مرات، وأغلب ورودها كان في سورة الأنعام، واختلافها في اللفظ يقع في ورود لفظ "أهل" قبل كلمة الكتاب، ففي معجم مقاييس اللغة لابن فارس (ت٣٩٥هـ) جاء أن (أَهَلَ) الْهَمْزَةُ وَالْهَاءُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ مُتَبَاعِدَانِ، أَحَدُهُمَا الْأَهْلُ، قَالَ الْخَلِيلُ: أَهْلُ الرَّجُلِ زَوْجُهُ، وَالتَّأَهُّلُ: التَّزَوُّجُ، وَأَهْلُ الرَّجُلِ أَخَصُّ النَّاسِ بِهِ، وَأَهْلُ الْبَيْتِ: سُكَّانُهُ، وَأَهْلُ الْإِسْلَامِ: مَنْ يَدِينُ بِهِ، وَجَمِيعُ الْأَهْلِ أَهْلُونَ، وَالْأَهَالِي جَمَاعَةُ الْجَمَاعَةِ؛ قَالَ النَّابِغَةُ:
♦ إن آيات الله هي الوحيدة والكفيلة لتبيان المراد من كلمة أهل الكتاب من زاوية شمولية الانتساب، فكما أن كلمة أهل الكتاب في آيات الله قد يراد بها مراد عام، فكذلك قد يراد بها مراد خاص، والسياق القرآني هو الذي يحكم في تبيان أي المراد من المرادين أحق وأصح في الآية، فمثلًا عندما تشمل عبارة أهل الكتاب شمولية عامة، فحينذاك تشمل الذين نسبوا إلى ما أنزله الله على موسى عليه السلام دون ما أنزله الله على عيسى عليه السلام كاليهود مثلًا؛ لأن اليهود يؤمنون بالتوراة ككتاب من عند الله دون الإنجيل، كما تشمل أيضًا الذين نسبوا إلى ما أنزله الله على موسى وعيسى عليهما السلام كالنصارى؛ لأنهم يؤمنون بالتوراة والإنجيل، وأنهما من عند ربهم، أما حين يراد بكلمة أهل الكتاب مراد خاص، فهي تشمل فقط الذين نسبوا إلى ما أنزله الله على موسى عليه السلام دون ما أنزله الله على عيسى عليه السلام، أو تشمل فقط الذين نسبوا إلى ما أنزله الله على موسى وعيسى عليهما السلام، ولا تشمل الذين نسبوا إلى ما أنزله الله على موسى عليه السلام دون عيسى عليه السلام، وهذا التصنيف هو تصنيف من حيث نوع الكتاب الذي نسبوا إليه.
♦ أمثلة من شمولية الانتساب لكلمة أهل الكتاب من القرآن الكريم والأحاديث:
١- شمولية عامة لكلمة أهل الكتاب: تشمل الذي نسبوا إلى التوراة دون الإنجيل، وتشمل أيضًا الذين نسبوا إلى التوراة والإنجيل؛ كقوله عز وجل: ﴿ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [آل عمران: 65].
تفسير ابن عثيمين رحمه الله: وقوله: ﴿مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ﴾ المراد بأهل الكتاب اليهود والنصارى، لكن المراد بهم هنا في الآية طائفة من اليهود، وهم بنو قريظة، وسبق أن بني قريظة وبني النضير وبني قينقاع ثلاث قبائل من اليهود، قَدِمَ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم ساكنون فيها، فأجرى بينهم وبينه عهدًا، ولكنهم نقضوا ذلك العهد، ولم يَبْقَ إلا بنو قريظة.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: كانَ أهْلُ الكِتابِ يَقْرَؤُونَ التَّوْراةَ بالعِبْرانِيَّةِ، ويُفَسِّرُونَها بالعَرَبِيَّةِ لأهْلِ الإسْلامِ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: لا تُصَدِّقُوا أهْلَ الكِتابِ ولا تُكَذِّبُوهُمْ، وقُولوا: ﴿ آمَنّا باللَّهِ وما أُنْزِلَ إلَيْنا ﴾[1].
٣- شمولية خاصة لكلمة أهل الكتاب: تشمل الذين نسبوا إلى الإنجيل والتوراة دون الذين نسبوا إلى التوراة دون الإنجيل:
تفسير ابن عثيمين رحمه الله: قوله هنا: ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ﴾ عام أُريد به الخاص، والمراد بهم النصارى؛ لأن الله سبحانه وتعالى ذكر حال اليهود فيما سبق من قوله: ﴿ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ﴾ [النساء: 157]، وما قبلها أيضًا.
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف