استخدم لاستكمال تمثاله الصخري الشعر الآدمي والأظافر البشرية وبقايا الملابس المهترئة , الباقي الوحيد بعد الموت من أولئك الذين سقطوا في قبضة الموت بعد هذه المجاعة الشرسة , التي طرقت بيوت الفقراء
والمعدمين , وعاثت تحطيما في أجسادهم , وقعدت بهم دون الهرب أو الاستغاثة أو الثورة عليها , واكلت م أجسادهم حتى بشمت , وظلموا جائعين , بأجساد ذات جلد تهدل وتقضيت على عظام وهنة بعد أن ذاب دهنهم
كان نحاتا موهوبا في زمن الضنك والفقر , ولكن الآن ليس أكثر من حفا قبور أو حانوتي قاتم يحترف تشييع الموتى , ويتقن إهالة التراب على الأجساد التي اقتاتها الجوع , ويستثمر الباقي القليل مما لن يمانع الموتى
بسلبهم إياه في إكمال تمثاله الصخري , الذي قده من الصخر منذ زمن , وأضني ذهنه تفكيرا وتدبرا في أي الأشكال سينحت منه , فكر في أن ينحته على شكل جواد السلطان ,لكنه تراجع عن الفكرة , إذ إن السلطان
يحب الخيل البرية لا الصخرية , وفي مرة أخرى فكر في أن ينحته على شكل حسناء ممشوقة القوام , لكن الحرمان الذي تحرك في داخله أورثه غصة خنقت أنامله , فمنعته من أن ينحته كما يحب , وآلا قراره إلى
أن ينحته على شكل طفل صغير يستجدي المارة بدموع صخرية خلابة , وخمن أنه سيجني الكثير من المال من هذا التمثال الحزين , إذ إن الأغبياء يسعدون باقتناء فنون الحزن , ويكلمون بها فالفقر بالمجان .
والفقراء هم من يبدعون الفنون في حين أن الأغنياء هم من يستمتعون بها .
لكن المجاعة المفترسة جعلته يتراجع عن تمثاله الصبي المستجدي , وشغلته بالموت وبالموتى , فقد داهمت المجاعة المكان على حين غرة , فقد كان من المتوقع أن الأمور ستزداد سوءا ما دام الوالي يضيق
الخناق على المواطنين ويرهقهم بالضرائب المضنية , ويشاركهم حتى في سعاداتهم وفي لحظات الجماع اللذيذة , في حين أن السلطان يمارس رياضاته المفضلة مثل ركوب جواري الفتنة , ومطاردة الشهب في
المجرات البعيدة .
أما الشباب من الرعية فقد كانوا نذورا وقرابين لحروب يعز أن تحصى لكثرتها تشتعل في بلاد غريبة , ولأسباب لا تعني أمهاتهم , ولا تستفز نخوتهم , وإن كانت أسبابا كافية لكي يحتكر التجار والمرابون السلع
والأغذية , ويقصروها على أصحاب الدراهم الذهبية , ويبقى الهواء الموجود المجاني الوحيد ملاذا للبطون الفارغة .
المجاعة كانت أقوى من أن تهزمها المدخرات القليلة والمؤن القديمة والأعمال ذات الأجور المتدنية , والحدود الصحراوية التي تختنق البلاد أشرس من أن يقطعها الجياع فارين لائذين بالعدم مما هم فيه , لذا فقد
استكان الجميع أمام الجوع , وتراجعوا أمام الحراب ذات الأتصال اللامعة إثر تتبعهم لروائح موائد الأغنياء والمترفين , فأحكم الجوع قبضته المهترئة على الجياع , ومحقهم دون رحمة أو نظرة عطف .
المشهد الرهيب هون من احتل قريحة النحات وأملى على طرقات أزميله الصغير أن ينحت تمثالا كبيرا على شكل مشهد موت عجيب , إذا إن الموت عملاق أسود ديلوك أجسادا غضة , وتتنزى من بين قبضتيه
أشلاء وأعضاء شبه مهروسة , وتحت قدميه تجثو غربان سمينة تلتهم بشهوة ما يسقط من بيد يديه , ولكي يكون التمثال أكثر صدقا واستحضارا لهيئة الموت البغيضة فقد استعان النحات الملهم بشعر بعض الموتى
وبأظافرهم وملابسهم , وثبتها بين يدي التمثال الموت , فكان التمثال حقيقة مجسدة للموت الذي يصهر المستضعفين دون رحمة .
المجاعة والموت الرهيب وأنات المنكوبين لم تمنع المترفين من أن يستمتعوا بما تجود به قرائح الملهمين الجياع , وأيدي الفنانين الفقراء , ديوان الثقافة أقام معرضا تسجيليا للمجاعة , شارك فيه الفنانون
الجائعون من كل البلاد وفي قلبه انتصب تمثال المجاعة الموت الذي حصد الكثير من الجوائز والصور والمقابلات التلفزيونية والصحافية .
اقتربت تلك الإعلامية الثرية المترفة من النحات , وسألته بفضول ضاربة صحفا عن حذائه المهترئ الذي تتفلت منه أصابع قميئة متسخة , وقالت له : ((أأنت من صنعت هذا التمثال ؟)). ابتسم النحات ابتسامة
كسيرة ساخرة , وقال لها بلا أدنى اهتمام : (( بل أنتم )).
يعطيك العافيه على الطرح ..
دام التألق... ودام عطاء نبضك
كل الشكر لهذا الإبداع,والتميز
لك مني كل التقدير ...!!
وبآنتظار روائع جديدك بكل شوق..
ودي وعبق وردي
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف