قال سَماحة العلَّامةِ الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -:
قال رحمه الله تعالى: باب فضل ضعفاء المسلمين وفقرائهم والخاملين منهم.
المراد بهذا الباب: تسلية مَن قدَّر الله عليه أن يكون ضعيفًا في بدَنِه، أو ضعيفًا في عقله، أو ضعيفًا في ماله، أو ضعيفًا في جاهه، أو غير ذلك مما يعُدُّه الناس ضعفًا؛ فإن الله سبحانه وتعالى قد يجعل الإنسان ضعيفًا من وجه، لكنه قويٌّ عند الله عز وجل، يُحِبُّه الله ويُكرمه، ويُنزِله المنازل العالية، وهذا هو المهم، المهمُّ أن تكون قويًّا عند الله عز وجل، وجيهًا عنده، ذا شرف يكرمك الله به.
ثم ذكر قول الله تعالى مخاطبًا نبيَّه صلى الله عليه وسلم في قوله: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ﴾ [الكهف: 28].
﴿ اصْبِرْ نَفْسَكَ ﴾ أي: احبسها مع هؤلاء القوم الذين يدعون الله بالغَداة: أول النهار، والعَشي: آخِر النهار، والمراد بالدعاء هنا: دعاءُ المسألة، ودعاءُ العبادة.
فإن دعاء المسألة يعتبر دعاء؛ كقوله تعالى في الحديث القدسي: ((من يدعوني فأستجيبَ له))، وقال تعالى: ﴿ وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60].
ودعاء عبادة، وهو أن يتعبَّد الإنسان لربِّه بما شرعه؛ لأن العابد يدعو بلسان الحال، ولسان المقال.
فالصلاة مثلًا عبادة تشتمل على قراءة القرآن، وذكر الله، وتسبيحه، ودعائه أيضًا، والصوم عبادة وإن كان في جوهره ليس فيه دعاءٌ، لكن الإنسان لم يصُمْ إلا رجاء ثواب الله، وخوف عقاب الله، فهو دعاء بلسان الحال.
وقد تكون العبادة دعاءً محضًا يدعو الإنسان ربَّه بدعاء فيكون عابدًا له، وإن كان مجرد دعاء؛ لأن الدعاء يعني افتقار الإنسان إلى الله، وإحسان ظنِّه به، ورجاءه، والخوفَ من عقابه.
فقوله تعالى: ﴿ وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾، ﴿ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ ﴾؛ أي: يسألونه حاجاتِهم، ويعبُدونه؛ لأن العابد داعٍ بلسان الحال، بالغداة: أول النهار، والعشي: آخر النهار، ولعل المراد بذلك: يدعون ربَّهم دائمًا، لكنهم يخُصُّون الغداةَ والعشيَّ بدعائه الخاص، ﴿ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ﴾ يعني لا يريدون عرَضًا من الدنيا، إنما يريدون وجه الله عز وجل.
﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ يعني لا تتجاوز عيناك إلى غيرهم؛ بل كن دائمًا ناظرًا إليهم، وكن معهم في دعائهم وعبادتهم وغير ذلك، وهذا كقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]، فقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ﴾ يعني: اجعل عينيك دائمًا فيهم.
وهنا قال: ﴿ وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ﴾ [طه: 131]؛ أي: لا تنظر إلى أهل الدنيا وما مُتِّعوا به من النعيم، ومن المراكب، والملابس، والمساكن، وغير ذلك.
فكل هذا زهرة الدنيا، والزهرةُ آخِرُ مآلها الذبولُ واليُبْس والزوال، وهي أسرع أوراق الشجرة ذبولًا وزوالًا؛ ولهذا قال: "زهرة"، وهي زهرة حسنة في رونقها وجمالها وريحها - إن كانت ذات ريح - لكنها سريعة الذبول، وهكذا الدنيا، زهرة تذبل سريعًا، نسأل الله أن يجعل لنا حظًّا ونصيبًا في الآخرة.
يقول: ﴿ لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى ﴾ [طه: 131]؛ أي: رزق الله بالطاعة، كما قال تعالى: ﴿ وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى ﴾ [طه: 132]، وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى شيئًا يعجبه من الدنيا قال: ((اللهم إنَّ العيش عيشُ الآخرة))، كلمتان عظيمتان، فالإنسان إذا نظر إلى الدنيا ربما تعجبه فيلهو عن طاعة الله، فينبغي أن يذكر نعيم الآخرة عند ذلك، ويقارن بينه وبين هذا النعيمِ الدنيوي الزائل، ثم يوطِّن نفسه ويرغبها في هذا النعيم الأخرويِّ الذي لا ينقطع، ويقول: ((اللهم إن العيش عيش الآخرة)).
وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فعيشُ الدنيا مهما كان زائلٌ، ومهما كان فمحفوفٌ بالحزن، ومحفوف بالآفات، ومحفوف بالنقص، وكما يقول الشاعر في شعره الحكيم:
لا طِيبَ للعَيشِ ما دامتْ منغَّصةً *** لَذَّاتُهُ بادِّكارِ الموتِ والهَرَمِ
والعيش مآله أحد أمرين:
إما الهَرَمُ حتى يعود الإنسان إلى سن الطفولة، والضعف البدني مع الضعف العقلي، ويكون عالةً حتى على أهله.
وإما الموت، فكيف يطيب العيش للإنسان العاقل؟ ولولا أنه يؤمِّل ما في الآخرة، وما يرجوه من ثواب الآخرة، لكانت حياتُه عبثًا.
ومهما يكن من أمرٍ، فقد أمَرَ الله نبيَّه صلى الله عليه وسلم أن يَصبِرَ نفسَه مع هؤلاء الذين يَدْعون الله بالغداة والعشيِّ يُريدون وجهه، والآية ليس فيها أمر بالضعفاء خاصة، وإن كان سبب النزول هكذا، لكن العِبرة بالعموم؛ الذين يدعون الله ويعبدونه، سواء أكانوا ضعفاء أم أقوياء، فقراء أم أغنياء، كنْ معهم دائمًا.
لكن الغالب أن المَلَأَ والأشراف يكونون أبعَدَ عن الدِّين من الضعفاء والمستضعَفين؛ ولهذا فالذين يكذِّبون الرسلَ هم الملأ، قال الملأ من قوم صالح: ﴿ قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ ﴾ [الأعراف: 75]، فنسأل الله أن يجعلنا وإياكم مع أهل الحق ودعاة الحق وأنصاره، إنه جواد كريم.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف