بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله.
وبعد؛ لقد قرر العلماء أن القرآن الكريم "كلية الشريعة، وعمدة الملة، وينبوع الحكمة، وآية الرسالة، ونور الأبصار والبصائر، وأنه لا طريق إلى الله سواه، ولا نجاة بغيره"[1]، وأن الله تعالى قد تكفل بحفظه، فقال سبحانه: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9] ومن تكفل الله بحفظه، لا بد أن يجعل له أفئدة تهوي إليه، تحب حفظه وحافظه كيفما كانت طبيعته، لذلك رأينا من يحب المصحف وهو لا يعرف قراءته، ويحب سماع القرآن وقد يكون غير عربي، ويحب الحافظ لحسن حفظه أو قراءته؛ ولا شك أن من رام التلقي والتلقين في حفظ كتاب الله عز وجل، لا بد له من منهج عملي يهتدي به، والمنهج الصالح لهذا في نظري، هو ما كان قائما على أصول أربعة:
أولًا: الإحساس بالافتقار
ومعناه أن يكون لدى المتلقي شعورا بالافتقار إلى حفظ كتاب الله؛ وهذا الشعور قد يربيه فيه أبواه، أو محيطه الذي يعيش فيه، إن كان محيطًا علميًّا فيه الحفظة، أو يربيه فيه شيخ حافظ يتميز بسمت حسن يقتدي به الحافظ ويتأثر به؛ أو قد يرغب في الحفظ إن كان صبيا بما يرغب به أقرانه من الصبية؛ فالأهم من كل هذا وذاك، أن تغرس في فؤاد المتلقي بذرة الإحساس بالافتقار إلى الحفظ؛ والكافي من كل ذلك في نظري، علم الحافظ للقرآن الكريم، أنه إذا حفظه نزل منزلة الاصطفاء التي أكرم الله بها حفظة كتابه من عباده، فكان أداة من أدوات الاختيار التي اختارها الله من بين خلقه لحفظ كلامه؛ فهذا الشعور إذا غرس في نفس المتلقي، وسقي بماء الإيمان بالله تعالى، والابتعاد عن الهوى المضل، وترويض النفس عن حب كلام الله اختيارًا لا اضطرارًا، كان كالشجرة الطيبة، التي ضرب الله بها المثل في القرآن الكريم، ثابتة الأصل، عالية الفرع تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، فتنتفع بها البلاد والعباد.
ثانيًا: التلقي عن الأبرار
بعد الإحساس بالافتقار، ينتقل المريد الراغب في الحفظ إلى مرتبة ثانية، هي مرتبة البحث عن الشيخ الملقن، والشرط فيه أن يكون من المبرزين المهرة الأبرار، الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: "مثل الذي يقرأ القرآن وهو حافظ له مع السفرة الكرام البررة"[2]؛ فوصف القارئ بالحافظ وبمعيته للملائكة هنا في هذا السياق، فيه تنبيه لحال كل شيخ صالح للمشيخة، فينبغي أن يكون في درجة الملائكة في الحفظ والحفاظ على كلام الله تعالى، "لكونه يسره الله تعالى عليه كما يسره على الملائكة، فكان مثلها في الحفظ والدرجة"[3]؛ والعلة في ذلك أن القرآن الكريم لا يدخل قلبا لا يحب الخير للغير، ولا يسكن جارحة ملئت حقدا وحسدا على الغير، والتلقين ينبني أساسا على السلامة من هذا وذاك، فالشيخ إذا أحب تلقين المتلقي، أراد له أن يكون أفضل منه حفظا وتبريزا، لأن القرآن إذا خرج من طيب وسكن طيبا كان النفع أسرع وأوقع، فهو روح من أمر الله، والإنسان أصله روح نفخت فيه من الله؛ وينبغي أن يكون الشيخ كذلك محبا تلقين غيره سليقة لا تكلفا وطمعا؛ ويكفي الشيخ من كل ذلك، علمه بأصل أفضلية العالم على المتعلم عند الله تعالى، فالعالم الذي يعلم غيره لا ينقطع عمله إذا مات، فكان علمه ولده المخلد بعده، فهو بتلقين الغير قد زرع فسيلة في الإسلام ينتفع بها هو قبل غيره، تكون له صدقة جارية عندما ينقطع عمله بموته؛ ومن الأشياء التي يحبها الشيخ ولا بأس بها إن وجدت في المتلقي إكرام الشيخ وإدخال السرور عليه، بالهدايا وبغيرها ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس وخاصة عندما يعارضه جبريل عليه السلام القرآن الكريم.
ثالثًا: اختيار زمن التكرار
بعد الإحساس بالافتقار، والتلقي عن الأبرار، يكون المتلقي قد انطلق في الحفظ بمعية شيخه الذي يتلقى عنه، فيختار له الشيخ الزمن الذي يصلح للمراجعة والتكرار؛ وهذا الزمن يجب أن ينتقى اتقاء من بين أحسن أزمنة الطالب، فيكون أفضلها على الإطلاق، لأن زمن الاشتغال بالقرآن الكريم زمن مشهود تحضره الملائكة، وتغيبه الشياطين، وقد بين الله عز وجل ذلك فقال: ﴿ أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا ﴾ [الإسراء: 78، 79] ففي ذكر زمن الفجر، وزمن التهجد دليل على أنهما أفضل أزمنة الحفظ والتكرار، وقد جرت العادة عندنا في المغرب أن يبدأ المتلقي الحفظ من الفجر، ثم يقف ضحى ليعرض المحفوظ على الشيخ ويكتب الجديد في لوحه، ثم يحاول حفظ ذاك الجديد ليقف بعد ذلك ويستأنف الحفظ بعد صلاة الظهر إلى العصر، فيقرأ على شيخه السور المحفوظة إلى قبيل المغرب، ليستأنفها من المغرب إلى صلاة العشاء؛ وتبقى الزيادة بعد ذلك لمن شاء؛ ليستيقظ قبيل الفجر وهكذا؛ وعلى كل حال فالشيخ أدرى بالطالب من نفسه في اختيار الزمن والكيفية التي بها يتم التلقي، وإنما يبقى الأهم من كل ذلك كله، هو اختيار الأحسن والأجود منها، وقد كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم دون أن يعين زمن الإتيان إليه، مما يدل على أن الشيخ أدرى بالزمن الجميل من الطالب، وكأنه بذلك عليه السلام يبين لنا أن استعداد الطالب للتلقي متعلق باستعداد الشيخ للتلقين، وفيه أيضا معنى آخر وهو ما ينبغي أن يكون عليه المتلقي من الخضوع والتواضع للشيخ الملقن، والله أعلم.
رابعًا: قصد تلقين الصغار
بعد كل ما سبق، يكون المتلقي قد وصل إلى درجة المشيخة أو قرب منها، وفي العادة عندنا أن الشيخ عندما يرى طالبه ما زال راغبًا في الزيادة يرسله لغيره من الشيوخ ليزداد إتقانًا؛ فحافظ القرآن كالنحلة، كلما سلكت سبل ربها ذلولًا أتت بعسل جيد متعدد الشفاء؛ إلى أن يصل المتلقي إلى درجة في الحفظ يطمئن إليها كل من تلقى عنهم، فيصبح هو بها شيخًا يتلقى عنه، فيكون قد ورث عن شيوخه الذين تلقى عنهم حفظ القرآن الكريم، مع الحفظ الأخلاق والآداب، وورث عنهم أيضا الإحساس بتلقين الغير، فيكون بهذا كله ألزم نفسه قصد تلقين غيره ممن دونه من صغار الحفظ، وهم الأقل درجة منه، فمن لا يحمل رغبة التلقين ولو بالدفع لا يسمى شيخًا، إذ أن الأصل من لا قدرة له على التلقين مأمور بدفع غيره له، من باب وجود الحفظ الكفائي، وإلا أصبح الحفظ واجبا عينيا على كل مسلم عند انعدام الحفظة، وهو أصل داخل في الدعوة إلى الخير والفلاح، الذي أمر الله به في قوله تعالى: ﴿ وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [آل عمران: 104] فينبغي إذن، أن يعيش الحافظ على هذا القصد الحسن، والمشروع الجميل، فكلما رأى من له أهلية الحفظ أعانه ووجهه، أو بالأحرى احتضنه ولقنه، فلا يتركه لغيره ممن لا خبرة له، ممن يقصد بالتوجيه قصد العنت والمشقة، لا قصد التيسير المبني على الخبرة في اختيار المنهج الصواب، وفي هذا القدر كفاية لذوي الألباب، والله يهدي من اهتدى بهديه سبل الصواب؛ والحمد لله على نعمة الكتاب.
[1] الموافقات، للإمام الشاطبي: 4/ 144، تحقيق مشهور آل سلمان، دار ابن عفان، ط1/ 1997م.
[2] رواه الإمام البخاري في صحيحه، كتاب تفسير القرآن، باب "يوم ينفخ في الصور فتأتون افواجا": 6/ 166، رقم: 4937 تحقيق محمد زهير بن ناصر الناصر، نشر دار طوق ط1/ 1422ه؛ وفي رواية للإمام مسلم "الماهر بالقرآن.."
[3] فتح الباري بشرح صحيح البخاري، لابن حجر العسقلاني: 51/ 399؛ دار الفكر بيروت، ط1/ 1441هـ 2019م.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف