ما دامت النفس البشريَّة خُلقت متسائلة، ومسكونة بغريزة هواجس الفضول، وحبِّ معرفة ما يتعلَّق بكلِّ ما يدور حولها، سواءٌ ما يقع منها تحت حسِّها، أم ما هو خارج محسوسها، تساوقًا مع قاعدة: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85]، وليس انتهاء بـ: ﴿ يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ ﴾ [الذاريات: 12]، فإنها إذًا - بهذا الوصف - لا تستقر على حال واحدة من الإيمان، أو الفرح، أو الحزن... أو غير ذلك من سائر الأنشطة الإنسانية في الحياة؛ ولذلك فإنَّ الوسوسة، بما هي هواجس النفس الإنسانية، قد تشطح بالعقل، وتطيح بصدق معتقده بالإيمان الغيبيِّ بالخالق سبحانه وتعالى، لا سيَّما إذا ما خرَجت عن حدود مستواها الإنسانيِّ الطبيعي، وذلك عندما تشرع بإثارة تساؤلات محيِّرة حول ذاته العلية، مثل: كينونته، وكيفيته، واستوائه، وكيفية الخلق من العدم، وكيف ستكون الحال يوم الدين... وما إلى ذلك من تساؤلات.
إذًا واضحٌ أنه ليس بمقدور العقل الإنسانيِّ بتركيبته الفيسيولوجية والحسية التي جُبل عليها - تقديمُ تصوُّرات صحيحة لها للإجابة عن مثل تلك التساؤلات؛ ولذلك نجد أن القرآن الكريم قد امتدح الذين يؤمنون بالغيب دون مماحكة أو هواجس، على قاعدة: ﴿ ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [البقرة: 2، 3].
ولا شك في أن وساوس العصر قد تفاقمت بشكل مذهل؛ نتيجة الإنجازات العلميَّة، والتقنية الهائلة التي أبدعتها الحضارة المعاصرة، الأمر الذي أدى إلى هوس حضاريٍّ لدى الإنسان المعاصر، تجسَّد في وسواس إضعاف التسليم بالحقائق الغيبية، والظواهر غير المحسوسة، عندما أخضع كلَّ شيء في الحياة المعاصرة إلى أساليب البحث العلمي المجرد، ومنطق التجريب الميدانيِّ العملي، وحصر آفاق التصديق بمعطيات نتائجهما وحسب.
ومع أن التراكم العلمي والتقني للمعرفة قد أتاح للبعض تسويغَ مثل هذه الوسوسة والتخرُّصات، فإن ذلك لا ينفي أنها لم تكن حاضرة أيضًا حتى في عصر النبوة يوم كانت المكتشفات العلمية والتقنية لم تكن قد ولَجَتْ بعدُ مثلَ هذا المستوى المتطور، فالوسوسة بما هي حالة إنسانية، تظلُّ حاضرة في كلِّ زمان، مع اختلاف حدة نوباتها، وذلك بالتناسب مع مستوى التطوُّر الحضاريِّ الذي يبلغه الإنسان.
ولذلك يلاحظ أن ردَّ الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم كان إيجابيًّا، باعتبار ظاهرة الوسوسة محض الإيمان، لا سيما عندما تكون في حدود المستوى الإنساني الطبيعي لها، وذلك عندما جاءه ناسٌ من أصحابه يستفتونه فيما يجدون في أنفسهم ما يتعاظم أحدهم أن يتكلَّم به، فأفادهم حينها بأن ((ذاك صريح الإيمان))، بعد أن كان قد سألهم: ((وقد وجدتموه؟)).
وهكذا كانت حنكة الرسول صلى الله عليه وسلم واضحةً، في حرصه التام على طمأنتهم بصدق إيمانهم، من واقع إدراكه النبويِّ لحقيقة النفس البشرية، عندما تناول المعضلة بمنظور إيجابيٍّ بالتسليم بها ابتداءً، ومن ثم الإقرار بأن هذا هو الإيمان الصريح بعينه، طالما كانت النفس الموسوسة متعايشة مع ربِّها، وتستحضر تقواه في سلوكياتها الحياتية، وهي تتفكر فيما بدا لها أنه وسوسة.
ولعلنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى استلهام الهدي النبويِّ الكريم، في معالجة وسواس العصر، وما خلَّفه من انفصام روحيٍّ في واقعنا المعاصر، بسبب ما أفرزته المعطيات التقنية والصناعية المعاصرة من ظاهرة انغماس اجتماعيٍّ تام في ضجيجها الصاخب؛ وذلك بتعزيز صريح الإيمان بالله تعالى، دون التفات لزوبعة وسوسة قصر التصديق على ما يثبته العلم، وتُبرهنُه التجربة فقط، فالغيب أوسع من ذلك الحيز الضيق بكثير؛ ﴿ وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [الإسراء: 85].
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف