بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ أما بعد:
فلقد كنت أحب دومًا أن أستمع إليه وهو يعيد عليَّ مقطع القرآن، وأحاول عد أزمنة الغنة على أناملي وهو يقرأ مثلما علمني.
وأشعر براحة عجيبة تسري في نفسي، وفي المكان من حولي، عندما يتكلم بهدوء وسكينة وحلم عجيب، مهما كان متعبًا، ويظهر التعب على وجهه، ومهما أرهقناه وأثقلنا عليه رغم كبر سنه.
ما زلت أذكر ابتسامته الدائمة التي لا تكاد تفارقه، ووجهه الذي يتلألأ نورًا، ويزينه إلى جوار ذلك لحية خالصة البياض تزيده بهاء وهيبة.
كنت أراقبه وأتعجب من شدة حرصه وهو يجمع ثيابه ويبعد يديه متحاشيًا لمس المصحف، ويعتذر لنا مع التلطف والتبسم أنه ليس على وضوء، ويحرص كل الحرص ألَّا يمسه إلا وهو متوضئ.
لا أنسى أبدًا يوم فجعت بخبر وفاته، وبكائي عليه يومها، فقد كانت هذه مصيبة الموت الثانية لعزيز غالٍ لديَّ، ولم أكن أكملت السابعة من عمري في ذلك الوقت.
لم أكن أصدق أنني لن أراه مرة أخرى، وأتزود من هذه السكينة التي تحيط به أينما حل، وأني سأحرم من التعلم من كل سكنة وحركة ولفتة يقوم بها؛ فقد كنت كآلة التصوير أسجل عنه وأتبعه وأحفظ عنه كل شيء.
أسأل الله العظيم أن يغدق على شيخي محمود من عظيم فضله، ووافر رحمته، وأن يباعد بينه وبين خطاياه كما باعد بين المشرق والمغرب، وأن ينقه من خطاياه كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، وأن يغسله بالماء والثلج والبرد.
ولقد كان هذا الدعاء السابق هو من علمني إياه مع سيد الاستغفار، وكان حريصًا على تثبيته في يومي، فلا ينهي المجلس حتى نردده معًا.
لقد مر على وفاته عشرات السنين، وما زلت أذكره وأدعو له، بل ولا أتمالك نفسي، فأبكي رغمًا عني كلما ذكرته، كما يحدث الآن وأنا أكتب لكم.
ووالله هذا أقل ما أقدمه له، أحسبه والله حسيبه، ولا أزكي على الله أحدًا كان من المخلصين الصادقين، وكان أول من حبب إليَّ القرآن وأهله، بسمته وخلقه وعلمه.
هل أثار مشاعركم حديثي عن شيخي؟
إن كان كذلك، فلا تبخلوا عليه بدعوة صالحة، ولكم مثلها من رب جواد كريم.
أما أنا، فلست أفكر في شيخي في هذه اللحظة، فقد تحول مسار ما نويت أن أكتب عنه، وهو فضل وأجر أهل القرآن، وغرق قلبي في تفكير عميق فيمن هو أعظم من شيخي محمود، ومن أهل القرآن جميعًا.
فإن كان القرآن هذب شيخي وجعله بهذه الصفات الجليلة، وجعل له هذه المكانة العظيمة في قلبي، فكيف بي إن رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي كان قرآنًا يمشي على الأرض، والذي أخبر عنه رب السماوات والأرض أنه على خلق عظيم، وهو مدح عظيم جدًّا جدًّا يليق بعظمة وجلال من مَدَحَ عز وجل، والممدوح صلى الله عليه وسلم.
كيف بي إن حادثته صلى الله عليه وسلم؟
توقفت كلماتي، فلا تريد أن تنساب وتكلم الدمع مدرارًا.
لا أستطيع تخيل الأمر فضلًا عن الحديث عنه.
فهل اشتقتم يومًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم؟
هل خطر بقلوبكم يومًا أن ترفعوا رؤوسكم لتظهروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم - مثل عمر بن الخطاب - لتفوزوا بثناء منه صلى الله عليه وسلم بأنه سيختار رجلًا يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، وتطمئن قلوبكم بهذا الثناء العاطر؟
لقد خطر ذلك بقلبي، وتمنيت أن يقال لرسول الله صلى الله عليه وسلم يومًا: فلانة من أمتك هي أكثر من صلى عليك اليوم، فيعرفني ويعرف أني أحبه.
أحيانًا كثيرة أشعر أن صلاتي عليه صلى الله عليه وسلم، ودعاء الوسيلة، ومحاولة اتباع هديه هي أقل ما أقدمه وفاء له وشكرًا وعرفانًا بجميله عليَّ أن جعله الله سببًا في أعظم نعمة رزقتها؛ وهي أني ولدت على الإسلام، وعلمني رسول الله ما يحبه الله ويرضاه، وما يبغضه ويسخطه، وأوصل لي رسالة من ربي لأنجو بها من النار، أسأل الله العظيم أن يرزقني وإياكم الفردوس الأعلى في صحبة نبيه، وأن يعتق رقابنا من النار بغير حساب، ولا سابقة عذاب.
لكن يظل الخوف والتساؤل يتردد في قلبي: هل سأفوز في الآخرة بصحبته التي حرمت منها في الدنيا؟
هل سأقبل على الحوض أم سأزاد عنه؟
هي أسئلة تبدو هينة لمن لم يعش معنى فقده صلى الله عليه وسلم في حياته، ويتحسر أن يفقده أيضًا في الآخرة.
فكثيرًا ترِد على المرء في خاصته أو في أمته نوازل يقول معها: ليت رسول الله بيننا نسأله ونستهدي به؛ فيرشدنا في هذه الظلمات والفتن.
ولكن يعود لرشده ويحاول تثبيت نفسه، فيخبرها أنه وإن فقدنا وجوده صلى الله عليه وسلم بيننا، فالكتاب الذي أنزل عليه وسنته حاضرة بيننا، وبها كثير مما نحتاج له بصيرة في الفتن المتلاطمة، وقد دعانا بنفسه للتمسك بهما بعده.
فاللهم جازِهِ خير ما جازيت نبيًّا عن أمته، ورسولًا عن دعوته، وآتِهِ الوسيلة والفضيلة، والمقام المحمود الذي وعدته، وارزقنا صحبته في الآخرة، وشربة من يده الشريفة لا نظمأ بعدها أبدًا.
جميع ما يطرح في منتديات سهام الروح لا يعبر عن رأي الإدارة وإنما يعبر عن رأي كاتبها ابرئ نفسي أنا مؤسس الموقع ، أمام الله ثم أمام جميع الزوار و الأعضاء على ما يحصل من تعارف بين الأعضاء على مايخالف ديننا الحنيف